صرخة مكلوم
فياض العبسو
في عصر الحاسوب ، وثورة المعلومات ، كثر الجهل ، وقلت القراءة والبحث ، وضاعت الأمانة العلمية ، وأصبح العلم يطلب عند الأصاغر ، كما أصبحنا في عصر الرويبضة ، حيث يتكلم الإنسان التافه ، باسم العامة ، وهذا كله من علامات الساعة ، التي أخبر عنها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ..وهمش الإعلام كبار العلماء والدعاة ، والأدباء والشعراء ، وجعل الأقزام أعلاماً ! وأصبحت الدعوة ، تخصص من لا تخصص له ، وأقصر طريق إلى الشهرة والثراء ..و" من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به "، حتى أصبح بعض الفنانين والفنانات يفتون في الدين بغير علم ، وأصبح كثير من الناس ، يكتفي بتصفح بعض المجلات والكتب ، ليتصدر بعدها للوعظ والإرشاد ، وربما للفتوى والرد على العلماء.. ولذلك كان السلف رحمهم الله يقولون: لا يؤخذ القرآن من مصحفي ولا العلم عن صحفي، أي أن الذي أخذ علمه عن الأوراق والكتب ، ولم يثنِ ركبتيه عند أهل العلم ، فإنه كثيراً ما يقع في الخطأ والوهم والتحريف والتصحيف لسوء فهمه وقلة علمه وضبطه . والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: من أخذ العلم عن الكتب ، فقد هدم نصف الدين ، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: من أخذ علمه عن الكتب ، فقد عطل الأحكام ، كما في مقدمة كتاب المجموع للإمام النووي رحمه الله ، وكانوا يسمون هذا الذي يأخذ علمه من الكتب ، ولا يجالس العلماء ، بالصحفي، ولا ثقة بعلمه ، فيقرأ( ألم ) بدلاً من( ألف لام ميم ) ، و( كهيعص ) بدل ( كاف ها يا عين صاد ) ، و ( يس ) بدل ( يا سين ) ، وهلم جراً ،والأمثلة على ذلك كثيرة وأصبحنا في عصر التفكه العلمي ، حيث بات كثير من الناس يسألون أسئلة تافهة ، لا وزن لها ولا قيمة ، وبأسلوب فظ ، لا أدب معه ولا احترام ، وغفلوا عن مهمات الأمور .ما رأيكم دام فضلكم ، لو افتتح رجل عادي وغير متخصص ، عيادة طبية ، أو صيدلية ، أو مكتباً هندسياً ، أو مكتب محاماة ، أو غير ذلك ، لا شك أن المختصين سيحتجون عليه ، والقانون سيحاكمه ، ويغلق مكتبه ، فلماذا يا ترى لا يحاسب هذا المتطفل على علوم الشريعة والإفتاء ؟! والله تعالى يقول:( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .. فأعط القوس باريها ، واحترم تخصصك..لقد أصبح لأرباب كل مهنة من المهن ، نقابة ، إلا علماء الدين ، فليس لهم نقابة !كما أن لكل طائفة من الطوائف ، مرجعية ، إلا المسلمين ، فلا مرجعية لهم ، وكل الناس يمارسون حريتهم ، فاليهودي يلبس طاقيته الصغيرة ، والنصراني يلبس صليبه المزيف ، والشواذ جنسياً ، يمارسون شذوذهم المشين ، الذي يدعو للقرف والاشمئزاز ، ويمجه الذوق وتأباه الفطرة الإنسانية السليمة .. أما المسلم الملتزم بتعاليم دينه ، فمحروم من حقه ، وممنوع من ممارسة حريته التي أعطاه الإسلام إياها ، وكذلك المسلمة ، التي تريد أن ترتدي وتتجمل بحجابها الشرعي ، الذي فرضه الله عليها، والذي منع في بعض البلاد العربية والإسلامية ، وأصبح مدعاة للسخرية والاستهزاء ، عند من لا خلاق لهم ، الذين يريدون أن تخرج المرأة شبه عارية ، ليشبعوا غرائزهم ونزواتهم ، ويريدون أن تنجب المرأة من غير زوجها.. لإنشاء جيل منحل ، لا قيم لديه ولا أخلاق.. والعياذ بالله تعالى .. وتحضرني في هذا الصدد قصة ، وهي أن أحد الأوربيين سأل الصدر الأعظم العلامة أحمد وفيق باشا العثماني ( وكان سريع الخاطر ، حاضر الجواب ) قال له: لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشين مجامعهن ؟ وهو يستنكر ذلك .فرد عليه قائلاً: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن . فبهت الذي كفر ، وسكت على مضض.كما منعت اللحية وتعدد الزوجات ، في بعض القوانين الوضعية الوضيعة .. ( قل ءأنتم أعلم أم الله ) ؟!.وهناك مخطط خبيث لنزع ثقة الناس بالعلماء ، حتى لا يسمعوا قولهم ، ولا يأخذوا بفتواهم .. فأصبح كثير من الناس ، لا يتورعون عن الطعن والقدح والنقد والجرح ، بعلماء هذه الأمة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله .لقد أصبحنا في عصر العقوق والجحود ، حيث يموت العالم العبقري والمفكر الفذ ، فلا نأبه له ، وتتجاهله وسائل الإعلام ، فإذا ما مات فنان أو فنانة ، مع احترامنا لكثير من الفنانين الملتزمين والفنانات الملتزمات..ملأنا الدنيا بكاء وعويلاً ، وتصدرت صورته صفحات الصحف والمجلات ، وخصصت له برامج لمدة ساعات على شاشات التلفزة ، لدراسة حياته وفنه ! ، وتخرج الحشود بجنازته ، وربما ملأ هذا الفنان الدنيا فساداً ، وأفسد أخلاق الكثيرين من الشباب والفتيات ، الذين باتوا يعرفون عن الفنانين ، أكثر مما يعرفون عن أمور دينهم ، وسيرة نبيهم ، وآل بيته الطاهرين ، وصحابته الغر الميامين ..لقد انعكست المفاهيم ، وانقلبت المعايير ، واختلطت الأمور على كثير من الناس ، فزينوا القبيح وقبحوا الحسن ، فسموا الخمر ، مشروبات روحية ، والزنا والعري والانفلات الأخلاقي ، حرية وتقدماً ، نعم إنه تقدم ولكن إلى النار ، وبئس القرار ، مع فرعون ، إمام هؤلاء التقدمية ، الذي( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) ، كما سموا التدين تشدداً ، والالتزام بتعاليم الدين تخلفاً ورجعية ، والجهاد ومقاومة الاحتلال إرهاباً ، والإرهاب دفاعاً عن النفس.. وأصبح عندهم الكاذب صادقاً ، والصادق كاذباً ، والخائن أميناً، والأمين خائناً، وهكذا.. كما أخبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ..مع أن المقاومة ، حق مشروع ، في جميع الشرائع والقوانين ، لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك ، وهي فطرة عند الإنسان وغريزة عند الحيوان ، وأي بلد في العالم يتعرض للإحتلال ، ولا يقاوم أهله المحتل ، فإنهم يعتبرون عملاء له ، وخونة لشعوبهم وأمتهم.. كنا ولا زلنا وسنبقى ، نفخر برجال المقاومة إبان الاحتلال والاستعمار ، أعني الاستخراب ، والذي ظنناه رحل إلى غير رجعة ، ورجع العدو إلى صوابه ، حتى تعيش الشعوب ، بأمن واستقرار ، بدل الحروب والدمار ، ولكن تبين لنا ، أننا كنا واهمين.. فمخطىء من ظن يوماً أن للثعلب ديناً ..ولو وجد هؤلاء الرجال الأبطال ، الذين كانون يقاومون الاحتلال ويقارعون المحتل ، لاعتبروهم إرهابيين ، وأودعوهم السجون ، وحكموا عليهم بالإعدام ! .لماذا أيها الناس ؟ لماذا كل هذا ؟ ألا تعلمون أن إنزال الناس منازلهم ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، هذا من الحكمة النبوية ، ومن صميم تعاليم الدين ! ولكن إنما يعرف الفضل لأهله ذووه .. إن أية أمة لا تعرف قيمة علمائها وعظمائها ، هي أمة عاقة ، ولا يمكن لها أن تنهض نهضة علمية وثقافية وحضارية ، فـ ( يا حسرة على العباد ) و ( يا ليت قومي يعلمون )..لماذا أصبحنا أضحوكة للأمم ، وألعوبة في أيديهم ، بأيدي رعاة البقر ، وحفدة القردة والخنازير ..الذين مزقوا وحدتنا، وقسموا أوطاننا، العزيزة على قلوبنا ، واحتلوا بلادنا ، واحداً تلو الآخر ، وصدقت مقولة سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: لقد أكلت ، يوم أكل الثور الأبيض.. لقد تداعت علينا الأمم ، وسلبوا خيراتنا ونهبوا ثرواتنا ، واتفقوا ضدنا ، ونسوا خلافاتهم في سبيل فتنتنا ، أشغلونا بأنفسنا ، وفرقوا بيننا ، وأفسدوا ذات بيننا ، وشعارهم في ذلك ، يعرفه الكبير والصغير ، ( فرق تسد ) وجوع كلبك يتبعك .. فأصبحنا نخدم الصهيونية العالمية ، ونحقق أهدافها بقصد أو بغير قصد..ماذا ينقصنا يا أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ؟! المال ، فبلادنا أغنى بلاد العالم ، لأن الله بارك فيها وجعلها مهبط الرسالات السماوية جمعاء، أم القوة ، فنحن أقوى الناس ، بوحدتنا وواجب التعاون بيننا ..وإن ديننا الذي وحد العرب بعد فرقة ، وجمعهم بعد شتات ، ونصرهم بعد أن كانوا مهزومين ، وألف بين قلوبهم ، وجعلهم إخوة متحابين ، بعد أن كانوا أعداء متباغضين ..إن هذا الدين العظيم ، الذي شرفنا الله ، بالانتساب إليه ، وجعلنا حملة رايته ورسالته ، قادر على أن يوحد أمتنا اليوم ، ويجعلهم خير خلف لخير سلف ، وكما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لا يصلح أمر هذه الأمة ، إلا بما صلح به أولها ..واسألوا التاريخ عن أمتنا ودورها الحضاري والريادي.. والتي نشرت العدل والرحمة والمحبة والسلام في أرجاء المعمورة.. ولولا حضارتنا الإسلامية العظيمة ، لما قامت للغرب حضارة.. ولبقوا في غيهم يعمهون ..اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليسوا يدرون الخبر
ولكن أخذوا أخلاقنا واستغلوا علماءنا ، ونحن للأسف الشديد ، قلدناهم وتشبهنا بهم في أخلاقهم السيئة ، وعاداتهم العفنة المشينة ، و"من تشبه بقوم فهو منهم ، ويحشر يوم القيامة معهم "، هذا إن لم يرجع إلى رشده وصوابه ، وقيمه وأخلاقه ، ويتب إلى الله عز وجل .. خذوا العبرة من غيركم ، ولا تكونوا عبرة لغيركم ..فالسعيد من وعظ بغيره ، والأحمق من وعظ به غيره .. واستثمروا كل لحظة ، ولا تضيعوا من أوقاتكم لحظة ، فالوقت هو الحياة ، ومن علامة المقت إضاعة الوقت..لقد أصبح المعلم ، هذا الجندي المجهول ، الذي يجاهد في ميدان التعليم ، أصبح إنساناً غير مرغوب فيه في المجتمع ، بحيث لو خطب إلى أحد من الناس ابنته ، فإنه ربما لا يزوجه !ويحكى في هذا المجال ، أن معلماً خطب فتاة من أبيها ، فسأله والد الفتاة ، ماذا تعمل يا بني ؟ فقال له: أعمل معلماً ، فقال له والد الفتاة: لا بأس ، العمل ليس عيباً ، ( الشغل مو عيب ) ! أرأيتم إلى أي حد وصل بنا العقوق ، علماً بأن أعظم رجل ينبغي أن يكون في المجتمع هو المعلم ، لأن جميع فئات الشعب وأصنافه ، يتخرجون من تحت يديه ، ولذلك تفوق الغرب علينا اليوم ، بعلمه ومخترعاته وحضارته ، اليوم وليس قبله ، حيث رفع قدر المعلم ، إلى أرفع درجة في المجتمع ، وأنزله المنزلة التي تليق به ، علماً بأن هذا من أخلاقنا ، وتعاليم ديننا ، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، المعلم الأول للأجيال، يقول عن نفسه:" إنما بعثت معلماً " و" إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم "، وهذا سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: أنا عبد لمن علمني حرفاً ، بمعنى مطيعاً ومحترماً له ، ومقدراً فضله علي ، وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله ، يقول:قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
وحقاً ، فإن المعلم وريث الأنبياء ، " فالعلماء ورثة الأنبياء " كما صح في الحديث الشريف .وقبل هذا وذاك ، قيل للأسكندر المقدوني ، تلميذ أرسطو طاليس ، وكان يجل معلمه أكثر من والده: لم نراك تجل معلمك أكثر من والدك ؟! فقال لهم بلسان العاقل المنصف ، المعترف بالفضل والجميل لأهله: إن أبي هو سبب حياتي الفانية ، ( من طعام وشراب ولباس ومسكن ) أما معلمي فهو سبب حياتي الباقية ..عود على بدء:الأمانة العلمية ، هي نسبة القول إلى قائله ، والثناء عليه ، إذ كيف نستفيد من علمه ولا نشكره و" لا يشكر الله من لا يشكر الناس " كما جاء في الحديث النبوي الشريف ، و" من قال لأخيه جزاك الله خيراً ، فقد أبلغ في الثناء " ..لقد أصبح اليوم كثير من الباحثين ، ولا سيما الذين يتابعون دراساتهم العليا ! وربما يشترون الإجازة شراء ، يأخذون كماً هائلاً من المعلومات ، من كتاب لمؤلف ، أو موقع لعالم ، أو الأقراص المضغوطة ( C DE)، وينسبونه لأنفسهم ، دون ذكر المصدر ، وهذا من السرقة العلمية ، التي لا تليق بطالب العلم ، أياً كان هذا العلم ، فمن بركة العلم ، نسبة القول إلى قائله ، وهذا يوثق العمل ، ويجعله موضع ثقة لدى الناس.. حتى أصبح كثير من أدعياء العلم ، وأنصاف العلماء ، يأخذون بل يسرقون كتباً كاملة ، ويغيرون عنوانها ، ويضعون لها مقدمة ، وينسبونها لأنفسهم ، ظلماً وزوراً ! والأمثلة عندي كثيرة ، لا مجال لذكرها..علماً ، بأن حقوق الطبع محفوظة.. فلماذا هذا الغش والخداع.. ألا يعلمون بأن حبله قصير ، سرعان ما ينقطع ، وتظهر الحقيقة للعيان ؟! ألا فاتقوا الله أيها الناس ، تأخذون جهد إنسان ، ربما كلفه هذا العمل سنين طويلة ، وتنسبونه لأنفسكم ، دون أي جهد منكم ، إلا تغيير اسم المؤلف ! وليكن نصب أعينكم ، قول الله تعالى: ( إن الله خبير بما تعملون ) .تاريخ النشر : 12/05/2007
بواسطة: هيئة التحرير المقال بقلم :الاستاذ فياض العبسو